فصل: (سورة البقرة: آية 6):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من فوائد الزمخشري في الآيات:

قال رحمه الله:

.[سورة البقرة: آية 6]:

{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (6)}.
لما قدّم ذكر أوليائه وخالصة عباده بصفاتهم التي أهلتهم لإصابة الزلفى عنده، وبين أن الكتاب هدى ولطف لهم خاصة، قفى على أثره بذكر أضدادهم وهم العتاة المردة من الكفار الذين لا ينفع فيهم الهدى، ولا يجدى عليهم اللطف، وسواء عليهم وجود الكتاب وعدمه، وإنذار الرسول وسكوته. فإن قلت: لم قطعت قصة الكفار عن قصة المؤمنين ولم تعطف كنحو قوله: {إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} وغيره من الآي الكثيرة؟ قلت: ليس وزان هاتين القصتين وزان ما ذكرت: لأن الأولى فيما نحن فيه مسوقة لذكر الكتاب وأنه هدى للمتقين، وسيقت الثانية لأن الكفار من صفتهم كيت وكيت، فبين الجملتين تباين في الغرض والأسلوب، وهما على حدّ لا مجال فيه للعاطف. فإن قلت: هذا إذا زعمت أن الذين يؤمنون جار على المتقين، فأمّا إذا ابتدأته وبنيت الكلام لصفة المؤمنين، ثم عقبته بكلام آخر في صفة أضدادهم، كان مثل تلك الآي المتلوّة. قلت: قد مرّ لي أن الكلام المبتدأ عقيب المتقين سبيله الاستئناف، وأنه مبنىّ على تقدير سؤال، فذلك إدراج له في حكم المتقين، وتابع له في المعنى وإن كان مبتدأ في اللفظ فهو في الحقيقة كالجارى عليه.
والتعريف في الَّذِينَ كَفَرُوا يجوز أن يكون للعهد وأن يراد بهم ناس بأعيانهم كأبى لهب وأبى جهل والوليد بن المغيرة وأضرابهم، وأن يكون للجنس متناولا كلّ من صمم على كفره تصميما لا يرعوى بعده وغيرهم، ودل على تناوله للمصرين الحديث عنهم باستواء الإنذار وتركه عليهم، وسَواءٌ اسم بمعنى الاستواء وصف به كما يوصف بالمصادر. ومنه قوله تعالى: {تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ} {فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ} بمعنى مستوية وارتفاعه على أنه خبر لإنّ، و{أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ} في موضع المرتفع به على الفاعلية كأنه قيل: إنّ الذين كفروا مستو عليهم إنذارك وعدمه. كما تقول: إنّ زيدا مختصم أخوه وابن عمه.
أو يكون أأنذرتهم أم لم تنذرهم في موضع الابتداء، وسواء خبرًا مقدّما بمعنى: سواء عليهم إنذارك وعدمه، والجملة خبر لإنّ. فإن قلت: الفعل أبدًا خبر لا مخبر عنه فكيف صحّ الإخبار عنه في هذا الكلام؟ قلت: هو من جنس الكلام المهجور فيه جانب اللفظ إلى جانب المعنى، وقد وجدنا العرب يميلون في مواضع من كلامهم مع المعاني ميلا بينًا، من ذلك قولهم:
لا تأكل السمك وتشرب اللبن، معناه لا يكن منك أكل السمك وشرب اللبن، وإن كان ظاهر اللفظ على ما لا يصح من عطف الاسم على الفعل. والهمزة وأم مجرّدتان لمعنى الاستواء وقد انسلخ عنهما معنى الاستفهام رأسًا. قال سيبويه: جرى هذا على حرف الاستفهام كما جرى على حرف النداء قولك: اللهمّ اغفر لنا أيتها العصابة، يعنى أنّ هذا جرى على صورة الاستفهام ولا استفهام، كما أن ذلك جرى على صورة النداء ولا نداء. ومعنى الاستواء استواؤهما في علم المستفهم عنهما لأنه قد علم أن أحد الأمرين كائن، إمّا الإنذار وإمّا عدمه، ولكن لا بعينه، فكلاهما معلوم بعلم غير معين. وقرئ: {أَأَنْذَرْتَهُمْ} بتحقيق الهمزتين، والتخفيف أعرب وأكثر، وبتخفيف الثانية بين بين، وبتوسيط ألف بينهما محققتين، وبتوسيطها والثانية بين بين، وبحذف حرف الاستفهام، وبحذفه وإلقاء حركته على الساكن قبله، كما قرئ: {قَدْ أَفْلَحَ}.
فإن قلت: ما تقول فيمن يقلب الثانية ألفًا؟ قلت: هو لاحن خارج عن كلام العرب خروجين: أحدهما الإقدام على جمع الساكنين على غير حدّه- وحدّه أن يكون الأوّل حرف لين والثاني حرفا مدغمًا نحو قوله: الضالين، وخويصة والثاني: إخطاء طريق التخفيف لأن طريق تخفيف الهمزة المتحرّكة المفتوح ما قبلها أن تخرج بين بين فأما القلب ألفًا فهو تخفيف الهمزة الساكنة المفتوح ما قبلها كهمزة رأس. والإنذار: التخويف من عقاب اللَّه بالزجر عن المعاصي. فإن قلت: ما موقع لا يُؤْمِنُونَ؟ قلت: إمّا أن يكون جملة مؤكدة للجملة قبلها، أو خبرًا لإنّ والجملة قبلها اعتراض.

.[سورة البقرة: آية 7]:

{خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (7)}.
الختم والكتم أخوان لأن في الاستيثاق من الشيء بضرب الخاتم عليه كتما له وتغطية لئلا يتوصل إليه ولا يطلع عليه.
والغشاوة الغطاء فعالة من غشاه إذا غطاه، وهذا البناء لما يشتمل على الشيء كالعصابة والعمامة.
فإن قلت: ما معنى الختم على القلوب والأسماع وتغشية الأبصار؟ قلت: لا ختم ولا تغشية ثم على الحقيقة، وإنما هو من باب المجاز، ويحتمل أن يكون من كلا نوعيه وهما الاستعارة والتمثيل. أما الاستعارة فأن تجعل قلوبهم لأن الحق لا ينفذ فيها ولا يخلص إلى ضمائرها من قبل إعراضهم عنه واستكبارهم عن قبوله واعتقاده، وأسماعهم لأنها تمجه وتنبو عن الإصغاء إليه وتعاف استماعه كأنها مستوثق منها بالختم، وأبصارهم لأنها لا تجتلى آيات اللَّه المعروضة ودلائله المنصوبة كما تجتليها أعين المعتبرين المستبصرين كأنما غطى عليها وحجبت، وحيل بينها وبين الإدراك.
وأمّا التمثيل فأن تمثل حيث لم يستنفعوا بها في الأغراض الدينية التي كلفوها وخلقوا من أجلها بأشياء ضرب حجاب بينها وبين الاستنفاع بها بالختم والتغطية. وقد جعل بعض المازنيين الحبسة في اللسان والعىّ ختما عليه فقال:
خَتَمَ الالهُ عَلى لِسَانِ عُذَافِرٍ ** خَتْمًا فلَيْسَ عَلى الكلامِ بقَادِرِ

وإذا أَرَادَ النُّطْقَ خِلْتَ لِسَانَهُ ** لَحْمًا يُحَرِّكُهُ لِصَقْرٍ نَاقِرِ

فإن قلت: فلم أسند الختم إلى اللَّه تعالى وإسناده إليه يدل على المنع من قبول الحق والتوصل.
قال أحمد رحمه اللَّه: هذا أول عشواء خبطها في مهواة من الأهواء هبطها، حيث نزل من منصة النص إلى حضيض تأويله ابتغاء الفتنة استبقاء لما كتب عليه من المحنة، فانطوى كلامه هذا على ضلالات أعدها وأردها:
الأولى: مخالفة دليل العقل على وحدانية اللَّه تعالى. ومقتضاه أنه لا حادث إلا بقدرة اللَّه تعالى لا شريك له، والامتناع من قبول الحق من جملة الحوادث فوجب انتظامه في سلك متعلقات القدرة العامة المتعلق بالكائنات والممكنات.
الثانية: مخالفة دليل النقل المضاهي لدليل العقل كأمثال قوله تعالى: {اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} {هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ} وهذه الآية أيضا فان الختم فيها مسند إلى اللَّه تعالى نصا. والزمخشري رحمه اللَّه لا يأبى ذلك، ولكنه يدعى الالتجاه إلى تأويلها لدليل قام عنده عليه. فإذا أثبت أن الدليل العقلي على وفق ما دلت عليه، وجب عليه إبقاؤها على ظاهرها بل لو وردت على خلاف ذلك ظاهرا، لوجب تأويلها بالدليل جمعًا بين العقل والنقل.
الثالثة: الفرار من نسبة ما اعتقده قبحًا إلى اللَّه تعالى تنزيها، على زعمه أن الاشراك به في اعتقاد أن الشيطان هو الذي يخلق الختم والكافر يخلفه لنفسه بقدرته على خلاف مراد ربه. فلقد استوخم من السنة المناهل العذاب وورد من حميم البدعة موارد العذاب.
الرابعة: الغلط باعتقاد أن ما يقبح شاهدا يقبح غائبا، فلما كان المنع من قبول الحق قبيحا في الشاهد وجب على زعمه أن يكون قبيحا من الغائب. وهذه قاعدة قد فرغ من بطلانها في فنها.
الخامسة: اعتقاده أن ذلك لو فرض وجوده بقدرة اللَّه تعالى لكان ظلما، واللَّه تعالى منزه عن الظلم بقوله تعالى: {وَما أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} ومن الظلم البين جهل حقيقة الظلم فإنه التصرف في ملك الغير بغير إذنه. فكيف يتصور ثبوت حقيقته للَّه تعالى؟ وكل مفروض محصور بسور ملكه عز وجل الملك للَّه الواحد القهار.
السادسة: أنه فر من اعتقاد نسبة الظلم إلى اللَّه تعالى فتورط فيه إلى عنقه لأنه قد جزم بأن المنع من قبول الحق لو كان من فعل اللَّه تعالى لكان ظلما. فيقال له: وقد قام البرهان على أنه من فعل اللَّه تعالى فيلزمك أن يكون ظلما- تعالى اللَّه عما يقول الظالمون علوا كبيرا- والخيال الذي يدندن حوله هؤلاء: أن أفعال العبد لو كانت مخلوقة للَّه تعالى لما نعاها على عباده ولا عاقبهم ولا قامت حجة اللَّه عليهم. وهذه الشبه قد أجراها في أدراج كلامه المتقدم، فيقال لهم: لم قلتم إنها لو كانت مخلوقة للَّه لما نعاها على عباده؟ فان أسندوا هذه الملازمة- وكذلك يفعلون- إلى قاعدة التحسين والتقبيح وقالوا: معاقبة الإنسان بفعل غيره قبيحة في الشاهد لاسيما إذا كانت المعاقبة من الفاعل فيلزم طرد ذلك غائبًا. قيل لهم: ويقبح في الشاهد أيضًا أن يمكن الإنسان عبده من القبائح والفواحش بمرأى منه ومسمع، ثم يعاقبه على ذلك من القدرة على ردعه ورده من الأول عنها. وأنتم معاشر القدرية تزعمون أن القدرة التي بها يخلق العبد الفواحش لنفسه مخلوقة للَّه تعالى، على علم منه عز وجل أن العبد يخلق بها لنفسه ذلك، فهو بمثابة إعطاء سيف باتر لفاجر يعلم أنه يقطع به السبيل ويسبى به الحريم، وذلك في الشاهد قبيح جزما. فسيقولون: أجل إنه لقبيح في الشاهد، ولكن هناك حكمة استأثر اللَّه تعالى بعلمها فرقت بين الشاهد والغائب، فحسن من الغائب تمكين عبده من الفواحش مع القدرة على أن لا يقع منه شيء، ولم يحسن ذلك في الشاهد.
وفي هذا الموطن تتزلزل أقدامهم وتتنكس أعلامهم، إذا لاحت لهم قواطع اليقين وبوارق البراهين فيقال لهم: ما المانع أن تكون تلك الأفعال مخلوقة للَّه تعالى ويعاقب العبد عليها لمصلحة وحكمة استأثر اللَّه بها كما فرغتم منه الآن سواء؟ فلم لا يسلك أحدكم الطريق الأعدل وينظر عاقبة هذا الأمر فيصير آخر أول، وليفوض من الابتداء إلى خالقه، ويتلقى حجة اللَّه تعالى عليه بالقبول والتسليم، ويسلك مهتديا بنور العقل ومقتديا بدليل الشرع الصراط المستقيم فان نازعته النفس وحادثته الهواجس ورغب في مستند من حيث النظر يأنس به من مفاوز الفكر، فليخطر بباله ما ذكر عند كل عاقل من التمييز بين الحركة الاختيارية والقسرية، فلا يجد عنده في هذه التفرقة ريبًا. فإذا استشعر ذلك فليتنبه فقد لطف به إلى أن انحرف عن مضايق الجبر، فارا أن يلوح به شيطان الضلال إلى مهامه الاعتزال، فليمسك نفسه دونها بزمام دليل الوحدانية على أن لا فاعل ولا خالق إلا اللَّه تعالى، فإذا وقف لم يقف إلا وهو على الصراط المستقيم والطريقة المثلى، مارًا عليها في أسرع من البرق الخاصف والريح العاصف؟ فليتأمل الناظر هذا الفصل، ويتخذه وزره في قاعدة الأفعال، يقف على الحق إن شاء اللَّه تعالى إليه بطرقه وهو قبيح واللَّه تعالى عن فعل القبيح علوا كبيرا لعلمه بقبحه وعلمه بغناه عنه.
وقد نص على تنزيه ذاته بقوله: {وَما أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} {وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ} {إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ} ونظائر ذلك مما نطق به التنزيل؟ قلت: القصد إلى صفة القلوب بأنها كالمختوم عليها. وأما إسناد الختم إلى اللَّه عز وجل، فلينبه على أنّ هذه الصفة في فرط تمكنها وثبات قدمها كالشئ الخلقي غير العرضي. ألا ترى إلى قولهم: فلان مجبول على كذا ومفطور عليه، يريدون أنه بليغ في الثبات عليه. وكيف يتخيل ما خيل إليك وقد وردت الآية ناعية على الكفار شناعة صفتهم وسماجة حالهم، ونيط بذلك الوعيد بعذاب عظيم؟
ويجوز أن تضرب الجملة كما هي، وهي ختم اللَّه على قلوبهم مثلا كقولهم: سال به الوادي، إذا هلك. وطارت به العنقاء، إذا أطال الغيبة، وليس للوادي ولا للعنقاء عمل في هلاكه ولا في طول غيبته وإنما هو تمثيل مثلت حاله في هلاكه بحال من سال به الوادي، وفي طول غيبته بحال من طارت به العنقاء فكذلك مثلت حال قلوبهم فيما كانت عليه من التجافي عن الحق بحال قلوب ختم اللَّه عليها نحو قلوب الأغتام التي هي في خلوّها عن الفطن كقلوب البهائم، أو بحال قلوب البهائم أنفسها، أو بحال قلوب مقدّر ختم اللَّه عليها حتى لا تعبى شيئا ولا تفقه، وليس له عز وجل فعل في تجافيها عن الحق ونبوّها عن قبوله، وهو متعال عن ذلك. ويجوز أن يستعار الإسناد في نفسه من غير اللَّه للَّه، فيكون الختم مسندًا إلى اسم اللَّه على سبيل المجاز. وهو لغيره حقيقة. تفسير هذا: أنّ للفعل ملابسات شتى يلابس. الفاعل والمفعول به والمصدر والزمان والمكان والمسبب له فإسناده إلى الفاعل حقيقة، وقد يسند إلى هذه الأشياء على طريق المجاز المسمى استعارة وذلك لمضاهاتها للفاعل في ملابسة الفعل، كما يضاهي الرجل الأسد في جراءته فيستعار له اسمه، فيقال في المفعول به: عيشة راضية، وماء دافق. وفي عكسه: سيل مفعم. وفي المصدر: شعر شاعر، وذيل ذائل.
وفي الزمان: نهاره صائم. وليله قائم. وفي المكان: طريق سائر، ونهر جار. وأهل مكة يقولون: صلى المقام. وفي المسبب: بنى الأمير المدينة، وناقة ضبوث وحلوب. وقال:
إذَا رَدَّ عَافِى الْقِدْرِ مَنْ يَسْتَعِيرُها

ويجوز أن المراد أن الحالة جدب حتى أن صاحب القدر برد المستعير حرصا على ما فيها من بقية المرق ولو قليلة فضمير كانوا لمن يستعيرها ويجوز أن عافى القدر: مفعول لم يظهر نصبه للوزن، ومن يستعيرها فاعل لأنه كان من عادة العرب في الجدب أن برد المستعير بقية من المرق في القدر للمعير، فهو كناية عن الجدب لكن لا تتم مناسبة لما بعده: ويجوز أن يكون المعنى إذا منع مستعير القدر عافيها أى طالب الرزق منها ولبخله وعدم نزول الضيفان عنده، لا يملك لنفسه قدرا، فإذا استعار قدرا ليطبخ فيها مرة منع طالب الرزق منها. وعلى هذا يحتمل أنه جمع حذفت نونه للاضافة فنصبه بالياء، فهذه أربعة وجوه.
فالشيطان هو الخاتم في الحقيقة أو الكافر، إلا أنّ اللَّه سبحانه لما كان هو الذي أقدره ومكنه، أسند إليه الختم كما يسند الفعل إلى المسبب. ووجه رابع: وهو أنهم لما كانوا على القطع والبت ممن لا يؤمن ولا تغنى عنهم الآيات والنذر، ولا تجدى عليهم الألطاف المحصلة ولا المقربة إن أعطوها، لم يبق- بعد استحكام العلم بأنه لا طريق إلى أن يؤمنوا طوعا واختيارًا- طريق إلى إيمانهم إلا القسر والإلجاء، وإذا لم تبق طريق إلا أن يقسرهم اللَّه ويلجئهم ثم لم يقسرهم ولم يلجئهم لئلا ينتقض الغرض في التكليف، عبر عن ترك القسر والإلجاء بالختم، إشعارًا بأنهم الذين ترامى أمرهم في التصميم على الكفر والإصرار عليه إلى حدّ لا يتناهون عنه إلا بالقسر والإلجاء، وهي الغاية القصوى في وصف لجاجهم في الغى واستشرائهم في الضلال والبغي. ووجه خامس: وهو أن يكون حكاية لما كان الكفرة يقولونه تهكما بهم من قولهم: {قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ} ونظيره في الحكاية والتهكم قوله تعالى: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ}. فإن قلت: اللفظ يحتمل أن تكون الأسماع داخلة في حكم الختم وفي حكم التغشية فعلى أيهما يعوّل؟ قلت: على دخولها في حكم الختم لقوله تعالى: {وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً} ولوقفهم على سمعهم دون قلوبهم. فإن قلت: أىّ فائدة في تكرير الجارّ في قوله: {وَعَلى سَمْعِهِمْ}؟ قلت: لو لم يكرّر لكان انتظاما للقلوب والأسماع في تعدية واحدة وحين استجدّ للأسماع تعدية على حدة، كان أدل على شدة الختم في الموضعين. ووحد السمع كما وحد البطن في قوله: كلوا في بعض بطنكم تعفوا، يفعلون ذلك إذا أمن اللبس. فإذا لم يؤمن كقولك: فرسهم، وثوبهم، وأنت تريد الجمع رفضوه. ولك أن تقول: السمع مصدر في أصله، والمصادر لا تجمع. فلمح الأصل يدل عليه جمع الأذن في قوله: {وَفِي آذانِنا وَقْرٌ} وأن تقدّر مضافا محذوفا: أى وعلى حواس سمعهم. وقرأ ابن أبى عبلة: وعلى أسماعهم. فإن قلت: هلامنع أبا عمرو والكسائي من إمالة أبصارهم ما فيه من حرف الاستعلاء وهو الصاد؟ قلت: لأنّ الراء المكسورة تغلب المستعلية، لما فيها من التكرير كأن فيها كسرتين، وذلك أعون شيء على الإمالة وأن يمال له ما لا يمال. والبصر نور العين، وهو ما يبصر به الرائي ويدرك المرئيات. كما أن البصيرة نور القلب، وهو ما به يستبصر ويتأمل. وكأنهما جوهران لطيفان خلقهما اللَّه فيهما آلتين للإبصار والاستبصار.
وقرئ: {غشاوة} بالكسر والنصب. وغشاوة: بالضم والرفع. وغشاوة: بالفتح والنصب. وغشوة: بالكسر والرفع. وغشوة: بالفتح والرفع والنصب. وعشاوة: بالعين غير المعجمة والرفع، من العشا.
والعذاب: مثل النكال بناء ومعنى لأنك تقول: أعذب عن الشيء، إذا أمسك عنه.
كما تقول: نكل عنه. ومنه العذب لأنه يقمع العطش ويردعه، بخلاف الملح فإنه يزيده.
ويدل عليه تسميتهم إياه نقاخا لأنه ينقخ العطش أى يكسره. وفراتا، لأنه يرفته على القلب. ثم اتسع فيه فسمى كل ألم فادح عذابا، وإن لم يكن نكالا- أى عقابًا يرتدع به الجاني عن المعاودة.
والفرق بين العظيم والكبير، أن العظيم نقيض الحقير، والكبير نقيض الصغير، فكأن العظيم فوق الكبير، كما أن الحقير دون الصغير. ويستعملان في الجثث والأحداث جميعًا.
تقول: رجل عظيم وكبير، تريد جثته أو خطره. ومعنى التنكير أن على أبصارهم نوعا من الأغطية غير ما يتعارفه الناس، وهو غطاء التعامي عن آيات اللَّه. ولهم من بين الآلام العظام نوع عظيم لا يعلم كنهه إلا اللَّه.
اللهم أجرنا من عذابك ولا تبلنا بسخطك يا واسع المغفرة.